سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {وَءاتُواْ النساء} خطاب لمن؟ فيه قولان:
أحدهما: ان هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه، وقال ابن الأعرابي: النافجة يأخذه الرجل من الحلوان اذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق الى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.
القول الثاني: ان الخطاب للأزواج. أمروا بايتاء النساء مهورهن، وهذا قول: علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج، قال لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج.
المسألة الثانية: قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} [التوبة: 29] والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني: كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلم في الموهوبة، ثم قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: {صدقاتهن} مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ {صدقاتهن} بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و{صدقاتهن} بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة، وقرئ {صدقاتهن} بضم الصاد والدال على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة: ظلمة، قال الواحدي: موضوع (ص د ق) على هذا الترتيب للكمال والصحة، فسمي المهر صداقاً وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل.
المسألة الرابعة: في تفسير النحلة وجوه:
الأول: قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: فريضة، وإنما فسروا النحلة بالفريضة، لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب، يقال: فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به، ونحلته كذا أي دينه ومذهبه، فقوله: {آتَوْا النساء صدقاتهن نِحْلَةً} أي آتوهن مهورهن، فانها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة.
الثاني: قال الكلبي: نحلة أي عطية وهبة، يقال: نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا، قال القفال: وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله، يقال: هذا شعر منحول، أي مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك، وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن؟ فيه احتمالان: أحدهما: أنه عطية من الزوج، وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله، فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك، وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
والقول الثالث: في تفسير النحلة قال أبو عبيدة: معنى قوله: {نِحْلَةً} أي عن طيب نفس، وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله، وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس، فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة.
المسألة الخامسة: إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان:
أحدهما: أن يكون مفعولا له، والمعنى آتوهن مهورهن ديانة.
والثاني: أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه، وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان:
أحدهما: أنه نصب على المصدر، وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم.
والثاني: أنها نصب على الحال، ثم فيه وجهان:
أحدهما: على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء.
والثاني: على الحال من الصدقات، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس.
المسألة السادسة: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: الخلوة الصحيحة تقرر المهر، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية، وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا، ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة، فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية.
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}.
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: نفسا: نصب على التمييز والمعنى: طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل في الأصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل، ومثله: قررت به عيناً وضقت به ذرعا.
المسألة الثانية: إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما.
قال الفراء: لو جمعت كان صوابا كقوله: {الأخسرين أعمالا} [الكهف: 103].
المسألة الثالثة: من: في قوله: {مِنْهُ} ليس للتبعيض، بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية.
المسألة الرابعة: منه: أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} [آل عمران: 15] بعد ذكر الشهوات.
وروي أنه لما قال رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له: الضمير في قوله كأنه ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول: كأنها، وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول: كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت: وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا، وفيه وجه ثالث: وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق.
المسألة الخامسة: معنى الآية: فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه وأنفقوه، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب، ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: {فَإِن طِبْنَ} ولم يقل: فان وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة.
المسألة السادسة: الهنيء والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنئ ما يستلذه الآكل، والمريء ما يحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وقيل: لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه.
وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران، فالهنيء شفاء من الجرب، قال المفسرون: المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل، والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة.
المسألة السابعة: قوله: {هَنِيئاً مَّرِيئاً} وصف للمصدر، أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على قوله: {فَكُلُوهُ} ثم يبتدأ بقوله: {هَنِيئاً مَّرِيئاً} على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنأ مرأ.
المسألة الثامنة: دلت هذه الآية على أمور: منها: ان المهر لها ولا حق للولي فيه، ومنها جواز هبتها المهر للزوج، وجواز أن يأخذه الزوج، لأن قوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} يدل على المعنيين، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.
وههنا بحث وهو أن قوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} يتناول ما إذ كان المهر عينا، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له، فانه لا يقال لما في الذمة: كله هنيئاً مريئاً.
قلنا: المراد بقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} ليس نفس الأكل، بل المراد منه حل التصرفات، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] وقال: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188].
المسألة التاسعة: قال بعض العلماء: ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً، وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيء} فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة به نفسها، فقال عبد الملك: فان الآية التي بعدها {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} اردد عليها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته: ان النساء يعطين رغبة ورهبة، فايما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها، والله أعلم.


{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة.
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول: إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن، فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم، فأما إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين، فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال: أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم. والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.
فان قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلم قال أموالكم؟
قلنا: في الجواب وجهان:
الأول: أنه تعالى أضاف المال اليهم لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب.
الثاني: إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 36] وقوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 85] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضا، وكان الكل من نوع واحد، فكذا هاهنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج اليه. فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء الى أوليائهم.
والقول الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى اذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها اليهم، لما كان في ذلك من الافساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال اليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها، واذا قرب أجله فانه يجب عليه أن يوصي بماله الى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته، وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين، ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع الى السفهاء أموالهم، واذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم.
الثاني: أنه قال في آخر الآية: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه، لان المرء مشفق بطبعه على ولده، فلا يقول له إلا المعروف، وإنما يحتاج الى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب، ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين.
قال القاضي: هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله: {أموالكم} على الحقيقة والمجاز جميعا، ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله: {أموالكم} يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها، ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له، وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي، إلا أنه يجب تصرفه، فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله: {أموالكم} واذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما.
المسألة الثانية: ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها: الأول: قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء هاهنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات.
وهذا مذهب ابن عمر، ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها».
فان قيل: لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال: السفائه. أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة.
أجاب الزجاج: بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز.
والقول الثاني: قال الزهري وابن زيد: عني بالسفهاء هاهنا السفهاء من الأولاد، يقول: لا تعط مالك الذي هو قيامك، ولدك السفيه فيفسده.
القول الثالث: المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير، قالوا اذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده.
والقول الرابع: أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والايتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة، وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل، ولذلك سمي الفاسق سفيها لانه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله.
المسألة الثالثة: أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الاموال.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} [الإسراء: 26، 27] وقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29] وقال تعالى: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن، والعقل أيضاً يؤيد ذلك، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، وقرأ نافع وابن عامر {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قَيِّماً} وقد يقال: هذا قيم وقيم، كما قال: {دينا قيما ملة إبراهيم} [الأنعام: 161] وقرأ عبدالله بن عمر (قواما) بالواو، وقوام الشيء ما يقام به كقولك: ملاك الأمر لما يملك به.
المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يحجر عليه.
حجة الشافعي: أنه سفيه، فوجب أن يحجر عليه، إنما قلنا إنه سفيه، لأن السفيه في اللغة، هو من خف وزنه.
ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة، فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء، فكان خفيف الوزن عندهم، فوجب أن يسمى بالسفيه، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم}.
ثم قال تعالى: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}.
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء: أولها: قوله: {وارزقوهم} ومعناه: وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال: فلان رزق عياله أي أجرى عليهم، وإنما قال: {فِيهَا} ولم يقل: منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال.
وثانيها: قوله: {واكسوهم} والمراد ظاهر.
وثالثها: قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}.
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها: أحدها: قال ابن جريج ومجاهد: انه العدة الجميلة من البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: اذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله، وان غنمت في غزاتي أعطيتك.
وثانيها: قال ابن زيد: انه الدعاء مثل أن يقول: عافانا الله وإياك بارك الله فيك، وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر.
وثالثها: قال الزجاج: المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل.
ورابعها: قال القفال رحمه الله القول المعروف هو أنه ان كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له، وأنه اذا زال صباه فانه يرد المال اليه، ونظير هذه الآية قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد، وكذا قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} [الإسراء: 28] وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والاسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها.


{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2] بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرشد، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: غير صحيحة، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية، وذلك لان قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال: ليس المراد بقوله: {وابتلوا اليتامى} الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ} فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي، وأما الذي احتجوا به، فجوابه: أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء، وأيضا: هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء، وهذا محتمل والله أعلم.
المسألة الثانية: المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} [النور: 59] وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع.
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة: منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث، وهو الاحتلام والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن على العانة، واثنان منها مختصان بالنساء، وهما: الحيض والحبل.
المسألة الثالثة: أما إيناس الرشد فلابد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد، أما الايناس فقوله: {ءانَسْتُمْ} أي عرفتم وقيل: رأيتم، وأصل الايناس في اللغة الابصار، ومنه قوله: {ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله، بل لابد وأن يكون هذا مراداً، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين؟ فعند الشافعي رضي الله عنه لابد منه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر، والأول أولى، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن أهل اللغة قالوا: الرشد هو إصابة الخير، والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير.
وثانيها: أن الرشد نقيض الغي قال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى: {وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين.
وثالثها: أنه تعالى قال: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين، والله أعلم.
إذا عرفت هذا فنقول: فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فانه لا يدفع اليه ماله، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فاذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فاذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه الصلاة والسلام: «مروهم بالصلاة لسبع».
فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال، فعندها يدفع اليه ماله، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال: لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية، فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا} ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ} ويجب أن يكون المراد: فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه، فانه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه، فاذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة، وجب أن لا يجوز دفع المال اليه، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فاذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول: انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد.
المسألة الخامسة: إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [النساء: 5] والقياس الجلي أيضا يدل عليه، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله، وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته، وهذا المعنى قائم في السفه الطارئ، فوجب اعتباره والله أعلم.
المسألة السادسة: قال صاحب الكشاف: الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد.
المسألة السابعة: قال صاحب الكشاف: قرأ ابن مسعود فان أحستم، بمعنى أحسستم قال:
أحسن به فهن اليه شوس ***
وقرئ رشدا بفتحتين ورشداً بضمتين.
ثم قال تعالى: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال اليهم، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} قال الواحدي رحمه الله: استعف عن الشيء وعف اذا امتنع منه وتركه، وقال صاحب الكشاف: استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ وفي هذه المسألة أقوال: أحدهما: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الأول: أن قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة.
وثانيها: أنه قال: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} فقوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة.
وثالثها: قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} فائدة، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
ورابعها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله، قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك.
وخامسها: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم أما بعد: فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبدالله ابن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم: من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.
وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا: يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها.
وسادسها: أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا هاهنا، فهذا تقرير هذا القول.
والقول الثاني: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس. وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم} فحكم في الأموال بدفعها اليهم.
والقول الثالث: قال أبو بكر الرازي: الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا.
واحتج عليه بآيات: منها: قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2] إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] ومنها: قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] ومنها: قوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] ومنها: قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [البقرة: 188] قال: فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر، وقوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي اليه.
أما قوله: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة، والخاص مقدم على العام. وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم، وهل النزاع الا فيه، وهو الجواب بعينه عن قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} أما قوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط، والنزاع ليس إلا فيه، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ}.
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا، فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه:
أحدها: أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له.
وثانيها: أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه. ثالثها: أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب» فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه، فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد.
واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق؟ وكذلك لو قال: أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق؟ قال مالك والشافعي: لا يصدق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق، واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله: {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وأيضا قال الشافعي: القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال: لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم: قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي: قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه، فيقال له: ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه، أما النقض بالقاضي فبعيد، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر، ويلزم التسلسل، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين: أحدهما: ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي، وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول: ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فهاهنا يلزمه الضمان، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره، فهاهنا يجب أن يقبل قوله، والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم، فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة، وهو قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم.
ثم قال بعده: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ} أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي؛ لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال اليه إلا عند حضور الشاهد، صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله: {فَأَشْهِدُواْ} كما أنه يجب لظاهر الايجاب، فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب، ثم قال هذا الرازي، ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد، اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات، فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة، فيقال له: أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه، واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله، وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله، ومثل هذا الفقه مسلم لك، ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى: {وكفى بالله حَسِيباً} قال ابن الانباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد: حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب، قولنا الشريب بمعنى المشارب، ومن الثاني قولهم: حسيبك الله أي كافيك الله.
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.
واعلم أن الباء في قوله: {وكفى بالله} {وكفى بِرَبّكَ} [الإسراء: 65] في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و{حَسِيباً} نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا، وحال كونه كافيا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8